وأما اختلاف الأسباب والوسائط فمع ما سبق له من إيضاح، نقول: إنه قد تقرر فيما مضى أن العبد -كل عبد- من حيث هو مفتقر ذاتياً إلى الله تعالى لا يستطيع أن يحقق مراداته ومطالبه التي لا تنتهي إلا بوسائط وأسباب إما حقيقية وإما متوهمة..
والقصد هنا بيان اختلاف شطري الجماعة الإنسانية: (المؤمنون والكافرون) بالنسبة لهذا الأمر، وكيف يصرف كل منهما عبادته وخوفه ورجاءه وسائر أعمال قلبه له وفي سبيله.
فأما المؤمن فمن بدهيات إيمانه تجريد الاستعانة بالله وحده -كتجريد العبادة له وحده- سواء الاستعانة به في الهداية والاستقامة وصلاح القلب، أو في إدراك المطالب وقضاء الحوائج التي يفتقر إليها المخلوق في معاشه ومصالحه .
فهو يعلم أن الله تعالى هو وحده الذي بيده خزائن كل شيء: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ))[الحجر:21] -كما سبق عنها- وهو يناجي ربه تعالى في حين وآخر: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد}
وهو يردد هذا الكنز من كنوز الجنة { لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم}
بل إن كل عاقل في الوجود لو تأمل وتدبر لوجد أنه '' ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب ألبتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات، فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهار.
فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل، فإنه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه، فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها، فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرى من لا حول له ولا قوة؟!
بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه، وإن ذهب عن أكثرهم علماً وحالاً، فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة ''
والمتأمل لكتاب الله تعالى ولحال الخليقة يجد أن من أكبر أسباب الشرك ودواعيه توهم المشركين أن غير الله مصدر خير لهم، وأن عبادته سبب لحصول ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، وأقل من ذلك من يتخذ من دون الله إلهاً، بمعنى أن يجعله قرة عينه وغاية قلبه ومتعلق إرادته.
أي أن شرك الدعاء أكثر من شرك المحبة، وذلك لأن حقيقة الافتقار في الأول أظهر وأعم، ولهذا جاء الخطاب به في القرآن أكثر، وأبطل الله عز وجل أن يكون لغيره نفع أو ضر أو ولاية أو شفاعة أو ملك أو شرك في ملك، أو يكون بيد غيره رحمة أو رزق أو فضل أو شفاء أو موت أو حياة أو نصر أو إغاثة أو كشف كرب... إلى آخر ما يفتقر إليه كل مخلوق وتصرف فيه أعمال القلوب, إلا من جعله الله تعالى سبباً لحصول شيء من ذلك.
وهذه من أكبر الحقائق التي فصَّلها القرآن المكي، وسد الله بها كل منافذ الشرك وذرائعه ودواعيه.
قال تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ))[سبأ:22-23].
وقال: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً))[فاطر:40].
((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ))[فاطر:13-14].
وقال على لسان خليله إبراهيم: ((إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))[العنكبوت:17]